فصل: تفسير الآيات (14- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (5- 6):

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}
وقوله سبحانه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق...} الآية: اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفَرَّاءَ: التقدير امْضِ لأمرك في الغَنَائِمِ، وإن كرهوا كما أخرجك رَبُّكَ.
قال * ع *: وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شَبَّهَتْ هذه القِصَّةَ التي هي إِخْرَاجُهُ من بيته بالقِصَّةِ المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأَنْفَال، كأنهم سألوا عن النَّفَلِ، وتشاجروا، فأَخرج اللَّه ذلك عنهم، فكانت فيه الخِيَرَةُ، كما كَرِهُوا في هذه القصة انْبِعَاثَ النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه اللَّه من بَيْتِهِ، فكانت في ذلك الخِيَرَةُ، وعلى هذا التأويل يُمْكِنُ أن يكون قوله: {يجادلونك} كلاماً مُسْتَأْنَفاً يراد به الكفار، أي: يجادلونك في شريعة الإسلام من بَعْد ما تَبَيَّنَ الحَقُّ فيها، كأنما يساقون إلى المَوْتِ في الدُّعَاءِ إلى الإيمان، وهذا الذي ذكرت من أن {يجادلونك} في الكُفَّار منصوص.
وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرج ربك من بَيْتِكَ على كَرَاهِيَةٍ من فريق منهم، كذلك يُجَادِلُونَكَ في قتال كفار مكة، ويوَدُّونَ غير ذَاتِ الشَّوْكَة من بعد ما تَبَيَّنَ لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يُريدُون هم، وقائل هذه المَقَالَةِ يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المُجَادِلِينَ هم المشركون، وهذان القولان يتم بها المَعْنَى، ويحسن رَصْفُ اللفظ.
وقيل غير هذا.
وقوله: {مِن بَيْتِكَ} يريد من المدينة يثرب قاله الجُمْهُور.

.تفسير الآيات (7- 10):

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ...} الآية: في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ، محل استيعابه كتاب سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن هِشَامٍ، واختصاره: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، قد أَقبل من الشام بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه: إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها. قال: فانبعث معه من خَفَّ، وثَقُلَ قوم، وكرهوا الخروح، وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مُهَاجِرِيٍّ وأَنْصَارِيٍّ، وقد ظَنَّ الناس بأجمعهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يلقى حَرْباً، فلم يكثر اسْتِعْدَادُهُمْ، وكان أبو سُفْيَانَ في خلال ذلك يَسْتَقْصِي، ويحذر، فلما بلغه خُرُوجُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث ضَمْضَمَ بْنَ عَمْروٍ الغفاري إلى مكة يَسْتَنْفِرُ أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رَجُل، أو نحو ذلك، فلما بلغ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى اللَّه إِليه وَحْياً غير مَتْلُو يَعِدُهُ إِحدى الطَّائِفَتَيْنِ، فَعَرَّفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فَسرُّوا، وَوَدُّوا أن تكون لهم العِيرُ التي لا قِتَالَ معها، فلما علم أبو سفيان بِقُرْبِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه أخذ طَرِيقَ الساحل، وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل مكة، وأشار بعض الكُفَّارِ على بَعْضِ بالانصراف، وقالوا: هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ، فلننصرف فحرش أبو جهل وَلَجَّ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة. وقال بعضٍ المؤمنين: نحن لم نخرج لِقِتَالٍ، ولم نَسْتَعِدَّ له، فجمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وهو بِوَادٍ يسمى دَقران وقال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فقام أبو بَكْرٍ، فتكلم، وأحسن، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو، فأعاد رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك، فأعاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي، فقال: لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن نَقُولُ: إِنا معكما مقاتلون، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة الحبشة لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا، فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معاً؛ فقال: يا رسول اللَّه، كأنك إيانا تُريدُ مَعْشَرَ الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال: إنا قد آمَنَّا بك، واتبعناك، وبَايَعْنَاكَ، فامضِ لأَمْرِ اللَّه، فواللَّه لو خُضْتَ بنا هذا البَحْرَ لَخُضْنَاهُ معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «امضوا على بَرَكَةِ اللَّه، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر.
* ت *: وفي صحيح البخاري من حَدِيثِ عائشة، في خروج أبي بكر من مكة فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ الحديث، وليست بمدينة الحبشة من غير شَكٍّ. فاللَّه أعلم، ولعلهما مَوْضِعَان. انتهى.
و{الشوكة} عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ.
وقوله سبحانه: {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافري نَ} المعنى: ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ، أي يأتي آخرهم، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه.
وقوله سبحانه: {لِيُحِقَّ الحق} أي: ليظهر الحق الذي هو دِينُ الإسلام، و{وَيُبْطِلَ الباطل}، أي الكفر، و{تَسْتَغِيثُونَ} معناه: تَطْلُبُونَ الغَوْثَ، و{مُمِدُّكُم} أي: مكثركم، ومقويكم من: أَمْدَدْتُ، و{مُرْدِفِينَ} معناه: متبعين.
وقرأ سائر السبعة غير نافع: {مردفين}- بكسر الدال-، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عَبَّاسٍ: خَلْفَ كل مَلَكٍ مَلَكٌ، وهذا معنى التتابع، يقال: رَدِفَ وأَرْدَفَ؛ إِذا اتبع، وجاء بعد الشَّيْءِ، ويحتمل أن يُرَادُ مُرْدِفِينَ للمؤمنين، ويحتمل أن يُرَادَ مردفين بعضهم بَعْضَاً، وأنشد الطبري شَاهِداً على أن أرْدَفَ بمعنى جاء تَابِعاً قَوْلَ الشاعر: [الوافر]
......................... ** إِذَا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا

ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا ** والثرَيَّا تطلع قبل الجَوْزَاءِ.

وروي في الصحيح: الأشهر أن المَلاَئِكَةَ قاتلت يَوْمَ بَدْرٍ.
واختلف في غيره؛ قال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بن أبي بكر؛ أنه حُدِّثَ عن ابن عباس، أنه قال: حدثني رَجُلٌ من بني غِفَارٍ، قال: أقبلت أنا وابن عَمٍّ لي حتى صَعَدْنَا في جَبَل يُشْرِفُ بنا على بَدْرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوَقْعَةَ على من تكون، فَنَنْتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ. قال: فبينما نحن في الجَبَلِ، إذ دنت منا سَحَابَةٌ، فسمعنا فيها حَمْحَمَةَ الخَيْلِ، فسمعت قائلاً يقول: أقدمَ حَيْزُوْم، فأما ابن عمي، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِهِ، فمات مكانه، وأما أنا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثم تَمَاسَكْتُ.
قال ابن إسحاق: وحدثني عَبْدُ اللَّه بن أبي بَكْرٍ عن بعض بني سَاعِدَةَ عن أبي سعيد مالك بن رَبِيعَةَ، وكان شهد بَدْراً، قال بعد أن ذهب بَصَرُهُ: لو كنت اليوم ببدر، ومعى بَصَرِي لأريتكم الشِّعْبَ الذي خَرَجَتْ منه المَلاَئِكَةُ لا أَشَكُّ ولا أَتَمَارَى. انتهى من سيرة ابن هِشَامٍ.
وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} الضمير في {جعله} عائد على الوَعْدِ، وهذا عندي أَمْكَنُ الأقوال من جهة المَعْنَى.
وقيل: عائد على المَدَدِ، والإِمداد.
وقيل: عائد على الإرداف.
وقيل: عائد على الأَلْف، وقوله: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} توقيف على أن الأَمْرَ كُلَّهُ للَّه وأن تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يغني، إذا لم يساعده القَدَرُ، وإن كان مَطْلُوباً بالجِدِّ، كما ظاهر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين درعين.

.تفسير الآيات (11- 13):

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)}
وقوله سبحانه: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ}. القَصْدُ تعديد نِعَمِهِ سبحانه على المؤمنين في يوم بَدْرٍ، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في {إذا} اذكروا وقرأ نافع: {يُغْشِيكُم}- بضم الياء، وسكون الغين- وقرأ حمزة وغيره: {يُغَشِّيكم}- بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: {يَغْشَاكم}- بفتح الياء وألف بعد الشين- {النُّعَاسُ} بالرفع، ومعنى {يُغَشِّيكُمُ}: يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية؛ أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله: {أَمَنَةً} مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ.
وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال: النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان.
قال * ع *: وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السماء مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}. وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ تَسُوخُ فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ الطريق، وتَلَبَّدَتْ تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى ماءَ بَدْرٍ، وأصاب المشركين من ذلك المَطَرَ ما صَعَّبَ عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فِعْلِ اللَّه بهم ذلك قَصْدَ المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتَشَجَّعَتْ، فذلك الرَّبْطُ على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللَّيِّنَةِ.
والضمير في {به} على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط.
وقوله سبحانه: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.
قال * ع *: ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} وعلى هذا التأويل يجيء قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس، وهذا أنبل الأقوال.
قال * ع *: ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً.
والبَنَان: قالت فرقة: هي المَفَاصِلُ؛ حيث كانت من الأعضاء.
وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صَاحِبُهُ بشيء من أعضائه واستأسر.
و{شَاقُّواْ}: معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: {شَاقُّواْ} أي: صاروا في شق غير شقه.
قال * ع *: وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذَكَرْنَاهُ، وقوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} جَوَابٌ، للشرط تضمن وَعِيداً وَتَهْدِيداً.

.تفسير الآيات (14- 16):

{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
وقوله سبحانه: {ذلكم فَذُوقُوهُ} المُخَاطَبَةُ للكفار، أي ذلكم الضَّرْبُ والقَتْلُ، وما أوقع اللَّه بهم يوم بَدْرٍ، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون {ذلكم} في موضع نَصْبٍ، كقوله: زيداً فاضربه، وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً...} الآية: {زَحْفاً} يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إِلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الأَلْيَةِ، ثم سمي كل مَاشٍ إلى آخر في الحرب رُوَيْداً زاحفاً، إذ في مشيته من التَّمَاهُلِ والتَّبَاطُؤِ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى اللَّه سبحانه في هذه الآية عن تَوَلِّي الأَدْبَارِ، وهذا مقيد بالشَّريطَةَ المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كَبِيرَةٌ موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة.
وقوله: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ...} الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة ب {يَوْمَئِذٍ} إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ} وحكم الآية باقٍ إِلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بَيَّنَهُ اللَّه سبحانه.
* ت *: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عَدَدُ المسلمين اثني عشر أَلْفاً، فإِن بلغ حرم الفِرَارُ، وإن زاد المشركون على الضعف «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ»، فإن أكثر أهل العِلْمِ خَصَّصُوا بهذا الحديث عُمُومَ الآية.
وعن مالك مثله. انتهى.
وفهم * ع *: الحديث على التَّعَجُّبِ، ذكره عند قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25]، وما قاله ابنُ رشْدٍ هو الصواب. واللَّه أعلم.
و{مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} يراد به الذي يَرَى: أن فعله ذلك أنْكَى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب {مُتَحَيِّزاً}، وأما الاسْتِثْنَاءُ، فهو من المولين الذين تضمنهم من.
والفِئَةُ هنا الجَمَاعَةُ الحاضرة لِلْحَرْبِ، هذا قول الجمهور.

.تفسير الآيات (17- 19):

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
وقوله سبحانه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} هذه الآية تَرِدُ على من يزعم أن أَفْعَالَ العباد خَلْقٌ لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسْبٌ للعبد؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يومئذٍ ثلاث قَبَضَاتٍ من حَصًى وتُرَابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمْيَةِ، ويروى أنه قال يوم بدر: شَاهَتِ الوُجُوهُ وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم حُنَيْن بلا خلاف.
و{لِيُبْلِيَ المؤمنين} أي: ليصيبهم ببلاء حَسَنٍ، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والغزة.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لاستغاثتكم، {عَلِيمٌ} بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قَتْلِ اللَّه لهم، ورميه إياهم، وموضع {ذلكم} من الإعراب رفع.
قال سيبويه: التقدير: الأمر ذلكم، و{مُوهِنُ} معناه مضعف مبطل.
وقوله سبحانه: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح...} الآية:، قال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة لكفار مكة؛ روي أن قريشاً لما عَزَمُوا على الخروج إلى حِمَايَةِ العِيرِ، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جَهْلٍ قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أَحَبَّ الفئتين إليك، وأظهر خَيْرَ الدِّينَيْنِ عندك، اللهم أَقْطَعُنَا للرحم فَأَحْنِهِ الغَدَاةَ، ونحو هذا فقال اللَّه لهم: إن تطلبوا الفَتْحَ فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لاَ لَكُمْ، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خَيْرٌ لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نَعُدْ بمثل وَقْعَةِ بدر، وباقي الآية بَيِّنٌ.